رغم توقف صناعة الحرير في لبنان منذ أكثر من عقدين، فإن آخر معامل تلك الصناعة ما زال شاهدًا على حقبة ذهبية من تاريخ البلاد حين كان الحرير أساسا للاقتصاد والنسيج الاجتماعي اللبناني.

ويقع معمل الحرير الناجي من بين عشرات المعامل في بلدة بسوس بقضاء عاليه (وسط)، وقد تحول عام 2001 إلى متحف، ويروي قصة الحرير في لبنان بكامل تفاصيلها، ابتداء من تربية دود القزّ ومرورًا بالإنتاج ووصولا إلى التصدير للخارج.

وشكّلت صناعة الحرير العمود الفقري للصناعة في لبنان قبل القرن العشرين، وأدت إلى ازدهار المناطق التي انتشرت فيها، وأسهمت في نموها الاقتصادي والاجتماعي، حتى وصف موسم الحرير بموسم العزّ، حسب تقرير سابق للجزيرة نت.

وكانت جودة الإنتاج ورخص اليد العاملة المحلية سببا في إقبال الأوروبيين، والفرنسيين منهم خصوصا، على شراء الإنتاج اللبناني، وأدخلوا معهم الآلات المتطورة، وعرفت المصانع باسم “الكرخانات”.

عناصر عديدة أدت إلى تراجع الصناعة، أولها الحرب العالمية الأولى التي أدت إلى خراب المشاغل، وكساد الإنتاج بسبب إقفال الأسواق، ثم دخول منافسة اليد العاملة الأرخص ثمنا من دول شرقية، وتطور صناعة الأقمشة التي حلّت محل الحرير المصنّع يدويا، وإهمال السلطات المختصة التي أقفلت مكتب الحرير الذي كان يؤمن البيوض وأسواق التصريف للمزارعين.

ومع مرور الوقت انقرضت الصناعة ولم يبق من يعتمدها، فتراجعت زراعة التوت، المصدر الأوحد لغذاء دودة القزّ المنتجة للحرير، وأهملت “المخانق” و”الكرخانات” التي تصنّع الحرير.

شجرة الذهب

ويعد العصر الذهبي للحرير في لبنان بين عامي 1840 و1912، خلال الحكم العثماني للبلاد الذي استمر من 1516 إلى 1918.

وفي تلك الحقبة كان موسم الحرير حدثا زراعيا وصناعيا مهما لآلاف اللبنانيين، إذ كان يشكل 50% من الدخل القومي للبلاد.

وتلقب شجرة التوت الأبيض “بشجرة الذهب”، حيث تعيش عليها دودة القزّ وتنسج منها الشرنقة التي يستخرج منها خيط الحرير بطول يراوح بين 600 إلى 1500 متر.

وتتميز معامل الحرير في لبنان بالتشابه في هندسة عمارتها.

ولصناعة ربطة عنق من الحرير يتطلب الأمر استخدام 110 شرانق تقريبًا، بينما يتطلب صنع قميص استخدام 630 شرنقة.

وفي أوائل القرن العشرين، قُدّر عدد معامل إنتاج الحرير (كرخانة) في لبنان بـ183 معملا، إلا أن عددها بدأ يتضاءل تدريجيا منذ عام 1945 إلى أن اندثرت كليا في مطلع القرن 21.

وتحدث المؤرخ اللبناني عصام خليفة -في تقرير سابق للجزيرة نت- عن ارتباط صناعة الحرير بتاريخ لبنان، فذكر أن هذه “الصناعة بلغت ذروة ازدهارها في القرن التاسع عشر، وانتشرت في مختلف المناطق اللبنانية، وتسببت في ازدهار المجتمع اللبناني، إلى جانب زراعات على مستوى مماثل من الأهمية هي زراعة الزيتون”.

ويذكر خليفة كيف كان يساعد أهله في تربية القز وصناعة الحرير بتحضير أوراق التوت وفرمها قبل إطعامها لدودة القزّ، ثم موسم جني الإنتاج الذي كانت تقوم حوله الاحتفالات، وتتجمع عليه العائلات أملا بالبحبوحة التي ستليه.

في أواخر الخمسينيات كان هناك مكتب حكومي مهمته الأساسية توزيع بيوض دودة القز على المزارعين (الأناضول)

دور اقتصادي واجتماعي

وظل معمل الحرير في بسوس ينتج الحرير على مدى أكثر من 50 عامًا (1901-1953) قبل أن يغلق أبوابه ويشتريه الزوجان جورج وألكسندرا عسيلي في سبعينيات القرن الماضي.

وعلى إثر الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990)، اضطر الزوجان إلى الابتعاد عن مكان المعمل، قبل أن يعودا إليه في أواخر التسعينيات، إذ قاما بترميمه وإعادة تأهيله، ومن ثم افتتاحه ليكون متحفا في عام 2001.

سعاد صافي التي تعمل مرشدة في المتحف قالت للأناضول إن “الحرير غيّر وجه لبنان الاقتصادي، وبسببه شقت الطرقات بين القرى لنقله إلى الأسواق الداخلية وتصديره إلى الخارج”.

وأصبحت المرأة اللبنانية من العاملات الأوَل في قطاع صناعة الحرير، فضلًا عن استخدام العديد من العائلات اللبنانية ألقابا مستوحاة من هذه الصناعة مثل “الحريري” و”الحايك” و”القزي”، حسب صافي.

وأوضحت المرشدة السياحية أن صناعة الحرير تسببت في ظهور المصارف في لبنان، لتسهيل الأعمال التجارية المتعلقة بصناعته.

متحف الحرير ببلدة بسوس اللبنانية

طريق الحرير

وقالت صافي إن “لبنان انفتح لبنان على العالم بفضل صناعة الحرير؛ من خلال قوافل التجارة التي كانت تسلك طريق الحرير نحو الصين، ودخلت إلى البلاد ألبسة وعادات وتقاليد جديدة وأطعمة لم يكن يعرفها لبنان من قبل مثل الأرز والبهارات”.

وعن توقف صناعة الحرير في لبنان، أشارت صافي إلى أن “الحروب والمنافسة الاقتصادية من أبرز أسباب توقفها، إضافة إلى ابتكار أقمشة صناعية تشبه الحرير مثل النايلون، وذلك شكّل ضربة قاضية للحرير اللبناني”.

وعلى إثر ضعف القطاع، حاولت الدولة اللبنانية دعمه في أواخر الخمسينيات بإنشاء مكتب حكومي مخصص للحرير، كانت مهمته الأساسية توزيع بيوض دودة القز على المزارعين وتقديم الإرشادات المناسبة.

تغذية دودة القز على أوراق التوت إحدى مراحل إنتاج الحرير (الأناضول )

أمل بالعودة

وقالت مي مزهر المسؤولة بوزارة الزراعة اللبنانية إن “المكتب حاليا خالٍ من الموظفين، بعدما أحيل آخر موظفيه منذ سنوات إلى التقاعد، فضلًا عن تعطل البنية التحتية والمختبرات المخصصة لهذا القطاع”.

وأضافت للأناضول “كانت مهام مكتب الحرير تتمثل في استيراد بيوض مؤصلة من اليابان، والعمل على تفقيسها وتوزيعها على المزارعين مجانا، إضافة الى توزيع شتلات التوت على المزارعين والحفاظ على جودة نوعيتها”.

وأشارت المسؤولة الحكومية إلى أن “هذا القطاع كان يشكل حركة اقتصادية مهمة، ونطمح لإحيائه من جديد، لأنه نشاط زراعي سهل ومربح، ويؤمن دخلا ماليا مهما للمرأة الريفية”.

وتقول مزهر إن الحكومة “كانت تشتري الإنتاج من المزارعين وتبيعه للمصدرين أو للمصانع المنتجة، إلا أن المنافسة الصناعية، وخصوصا الصينية منها، أدت إلى اندثار هذه الزراعة في لبنان تدريجيا”.

وأوضحت أن “وزارة الزراعة تدرس تقديم مشروع حكومي لإعادة هذه الزراعة والصناعة إلى الحياة من جديد، وتأمل من الجهات الدولية المانحة تأمين التمويل اللازم لذلك، في ظل الصعوبات الاقتصادية التي يواجهها لبنان منذ 2019”.

شاركها.
Exit mobile version