في حوار لطيف للشاعر الراحل نزار قباني (1923 ـ 1998) مع الإعلامي السوري مروان الصواف.. جاء فيه:” إما أن يكون الشاعر جزءًا من التاريخ أو لا يكون.. الجمهور العربي تحوّل إلى وحشٍ سياسي، فإذا لم تقدم له قصيدة سياسية أكلك”. وأضاف:” هناك شعراء في العالم العربي حاليًا يقدمون للجمهور قطعة شوكولاتة في قصائدهم، الجمهور العربي لم يعد يقنع بقصائد الشوكولاتة، وأنا بحاستي السادسة عرفت أن قصائد الحلويات انتهت.. فإما أن يكون الشاعر قنبلة موقوتة بشعره أو لا يكون”.. انتهى.

وجدت في كلام نزار “ضالتي” وكان ـ بالنسبة لي ـ مقاربة معقولة قدمت تفسيرًا لـ “موات” الشعراء العرب الأحياء في محنة غزة الأخيرة.

تبرير مخلّ

إذ كان من اللافت لي ـ وبالتأكيد لغيري أيضًا ـ استدعاء شعر أبي القاسم الشابي أو نزار قباني أو محمد الفيتوري أو محمود درويش أو أمل دنقل أو سميح القاسم أو حتى قصيدة “موطني” التي كتبها إبراهيم طوقان في ثلاثينيات القرن الماضي.. للتعبير عن قضيتنا الأم “فلسطين/غزة” حاليًا، فيما لا نجد أيًا من الشعراء العرب من الذين على قيد الحياة، مَنْ يغري على استدعائه في مثل هذه القضايا!!

وبتأمل تاريخ وفيات هذا الجيل – الذي شكل هويتنا الوطنية وذائقتنا الإبداعية – “الموتى الحاضرين”، يتبين لنا حجم “الأزمة” التي تُهدر طاقة الشعراء “الحاليين” بعيدًا عن قضايا “الهم العام”: أبو القاسم الشابي توفي عام 1934 وإبراهيم طوقان عام 1941 ونزار عام 1998، ودرويش عام 2008، وأمل دنقل عام 1983، وسميح القاسم عام 2014 والفيتوري عام 2015.

نحن الآن في عام 2024، يفصلنا عن هذه الطليعة سنوات طويلة، فيما ترك رحيلهم فراغًا لم يتمدد فيه شاعرٌ عربيٌ من بعدهم.. وكلما شعرنا بالجوع نزور بساتينهم العامرة، ونعود بسلالنا مكتظة بما لذ وطاب من شعر، سواء في الحب أو في السياسة والثورة أو النضال ضد الدكتاتوريات، وتعرية القمع وإدانة هزائمنا المتكررة.!

قد يعتقد البعض أن البيئة السياسية العربية ـ الآن ـ غير آمنة، ولعل ذلك يفرض على المبدع رقابة ذاتية تجنبًا لصدام مع السلطة، قد يكلفه قضاء جزء من عمره في الزنازين الباردة، وفي تقديري أن هذا تبرير مخلّ؛ لأن تلك “الطليعة” كتبت قصائد سياسية خشنة وشديدة العنف في بيئات أمنية لا تتورع عن ارتكاب أسوأ ممارسات البطش والتنكيل، وفي وقت لم تكن السماوات المفتوحة والإعلام الاجتماعي أو منظمات العمل الأهلي المهتمة بحقوق الإنسان، على هذا النحو الذي يرفل فيه شعراءُ اليوم، أي ـ آنذاك ـ كان التنكيل يحدث في “الظلمة”، وبدون أية رقابة حقوقية أو إعلامية مستقلة.

شاعرُ أزقةٍ

كان نزار قباني ـ مثلًا ـ يتساءل مستغربًا: كيف يكتب صديقه محمد الماغوط الشعر السياسي الماس بهيبة السلطة في بلاده وهو في الخدمة الإلزامية /العسكرية؟! فضلًا عن أن السيرة العائلية لـ”الماغوط” من رعي الخراف إلى قراءة القرآن على المقابر وملابس البالة التي تستر جسده الذي أنهكته السجون والمعتقلات والمطاردات الأمنية والجوع والفقر، كانت تكفي لحمله على أن يقدم “تنازلات” ـ وهو ما لم يحدث في حياته ـ نظير انتقاله من الإقامة في مدن الصفيح والعشوائيات إلى الاستمتاع بدفء المنتجعات المخملية.

قال الماغوط ـ ذات مرة : “كل كتابتي من الشعر والسينما والصحافة كانت لترميم ذلك الكسر الذي ورثته من السجن، لكنني لم أستطع”. بل إن الماغوط الذي لم ينم ليلةً شبعانَ، ترك مجلة “شِعر” البيروتية ذات الثراء الواسع من الممول الأميركي ـ الـCIA ـ كما كشفت بذلك الكاتبة والباحثة البريطانية “فرانسيس ستونرسوندرز” في كتابها الشهير: ” من يدفع أجرة الزمار /العازف”.

وعندما سُئل الماغوط عن السبب ـ رغم ظروفه شديدة البؤس والقسوة ـ قال: “افترقنا لأنني شاعرُ أزقةٍ لا شاعرَ قصور”.!! وفي سياق دفاعه عن طريقته في كتابة قصيدة النثر قال: إن” همومه لم تسمح له بالبحث عن القافية، إذ كان هاربًا وجائعًا ومشردًا، يبحث عن مخبأ يُؤويه”.

الماغوط المشرد والجائع والمطارد كتب وفي وقت كان فيه هدفًا في ميدان رماية أجهزة الأمن العربية قائلًا:

“لا أؤمن بالموت من أجل الوطن..

الوطن لا يخسر أبدًا، نحن الخاسرون..

عندما يبتلى الوطن بالحرب ينادون الفقراء ليدافعوا عنه..

وعندما تنتهي الحرب ينادون الأغنياء ليتقاسموا الغنائم..

عليك أن تفهم أن في وطني تمتلئ صدور الأبطال بالرصاص وتمتلئ بطون الخونة بالأموال..

ويموت من لا يستحق الموت على يد من لا يستحق الحياة”.. “انتهى”.

وصاية ورقابة

وفي السياق ذاته، كتب نزار قباني عام 1954 قصيدته المدوية “خبز وحشيش وقمر” ونُشرت في مجلة “الآداب” البيروتية بالتزامن مع وجوده على رأس وظيفة مرموقة في السلك الدبلوماسي السوري “قنصل لدمشق في لندن”، ولم يخشَ إقالته وقطع “أكل عيشه”.

هاج عليه البرلمان السوري، وطالب برلمانيون بإحالته إلى التأديب وطرده من عمله، بيد أنه ـ بعدها بسنوات ـ ترك طواعية وظيفته “ذات الوجاهة الاجتماعية”، حين استشعر أنها باتت عبئًا ووصايةً ورقيبًا عليه وأسس دارَ نشرٍ خاصة في بيروت لنشر أعماله “منشورات نزار قباني”.

وهي الخطوة التي خدمته عندما نشرت مؤسسته الخاصة قصيدة “هوامش على دفتر النكسة” التي أثارت غضب الطيف السياسي العربي كله من اليسار واليمين والوسط وأدان فيها ـ نزار ـ النظام السوري نفسه، الذي كان شريكًا في هزيمة 5 يونيو/حزيران المهينة للعرب، وعاقبته القاهرة بمنع نشر وبيع وتداول دواوينه في مصر، إضافة إلى منع إذاعة أغانيه في الإذاعة والتلفزيون المصريين، وتحوَّلت القصيدة إلى “منشور سياسي سري محظور” إلى أن قرر عبد الناصر إلغاء قرار الحظر.

زعم رجاء النقاش في مقال له في مجلة الهلال 1970، أن قرار الإلغاء صدر بعد رسالة من نزار إلى الرئيس الراحل ـ الرسالة متداولة على النت مصدرها رجاء النقاش وحده ـ بيد أن رواية أخرى جاءت على لسان فاروق جويدة، ومن الأهمية الإشارة إليها لمغزاها بشأن جسارة شعراء الثورة والمقاومة في أكثر عهود القمع العربي ظلامًا ووحشية.. فبحسب جويدة فإن عبد الناصر، كلّف “هيكل” بعقد تسوية مصالحة مع نزار قباني.. وانتهت التسوية بترضية “نزار” بأن تشتري مصر أحد دواوينه.. وأن تغني أم كلثوم قصيدة له.. فكانت رائعته “أصبح عندي الآن بندقية” التي لحّنها عبد الوهاب عام 1969.

وفي ذات السياق، كتب أمل دنقل قصيدته “البكاء بين يدي زرقاء اليمامة” عام 1967 متوقعًا الهزيمة قبل الإعلان عنها رسميًا، كما قال بنفسه في حوار “قديم” ـ أعادتْ نشرَ جزءٍ منه جريدة الدستور المصرية في 23 يونيو 2020 ـ مؤكدًا أن القصيدة ” لم تنشر في حينها؛ بسبب المقاطع التي تتحدّث عن غياب الحرية”.

غير أنّ الناقدة المسرحية “صافي ناز كاظم” قالت لي: إن دنقل تقدم إليها ـ آنذاك بالقصيدة ـ ولم يكن بينهما أية معرفة، لتقول فيها رأيها فهالها جمالُها وقوتُها، فقررت المحاربة لنشرها على صفحتها في مجلة “المصور”، بحسب تعبيرها، بعدما غيَّرت عنوانها إلى “تكلمي.. لشد ما أنا مهان”، وقالت للرقيب حينها: قرار المنع كان يخص “البكاء بين يدي زرقاء اليمامة” ولا يخصّ “تكلمي.. لشد ما أنا مهان”! وقالت كاظم: فتقبل الرقيب تحايلها وتم نشرها كاملة مما أذهل أمل نفسه”! في حين حمل أول دواوينه ذات عنوان القصيدة “البكاء بين يدي زرقاء اليمامة” والذي صدر ـ أيضًا ـ في عهد عبد الناصر 1969، وليس ثمة ما يشير إلى أن الديوان صُودر وقتذاك.

دائرة النار

وكتب دنقل رائعته “لا تصالح” في عهد الرئيس السادات عام 1976، أي قبل زيارة الأخير لتل أبيب، وهي القصيدة التي من المرجّح أنه بسببها، عُوقب بالتهميش والتجويع، ورفْض الصحف التابعة للحكومة نشر قصائده، أو حتى ذكر اسمه من قبيل الاستدلال كما كشف ذلك “كارم الأبنودي” في حوار بجريدة “الجمهورية” عام 1993.

وامتدت محنته مع التهميش و”العقاب” الرسميين إلى ما بعد وفاته بسنوات حتى في عهد مبارك: فمنذ رحيله لم تطبع له المؤسسات الثقافية الرسمية سوى ديوان “أوراق الغرفة 8”. ولم تُصدر له الهيئة العامة للكتاب أيًا من دواوينه في مشروع مكتبة الأسرة.

ولم يُدرج اسمه وإنجازه الشعري في أية احتفالية ثقافية من الاحتفالات الكثيرة التي كانت تنظمها بمناسبة ودون مناسبة، وتعمدت الحكومة ـ أثناء معاناته مع السرطان ـ إهانته فرد أمل قائلًا: “أعلن ندمي وتوبتي عن التفكير في شفائي عن طريق القرارات الوزارية، وأشكر كل الأصدقاء الذين حاولوا بشكل أو بآخر أن يبعثوا في نفسي الاطمئنان بأن الدولة سوف تهتم بأمر علاجي وترسلني للعلاج في المستشفيات الأميركية، أسوة ببعض الحالات الأخرى. ولكني أناشدهم أن يكفوا عن ذلك، فيكفي ما تحملت من عذابات انتظار اللجان والتقارير والقرارات وفي النهاية رصدوا لي مبلغًا لا يسمح بعلاجي داخل مصر. فما بالك بالعلاج في الخارج”، وذلك بحسب ما نقله جهاد فاضل في القبس الكويتية يوم 13 سبتمبر/أيلول عام 2006.

وليس بوسع أي ناقد مدقق، أن يتجاوز ظاهرة خلو كل دواوين الشاعر العراقي أحمد مطر، من أية قصيدة “غزل”، وعندما سُئل عن ذلك قال :” أليس حبًا أن تستميت لاسترداد الوطن من اللصوص؟…أليس حبًا أن تحاول هدم السجن وبناء مدرسة؟… إن البكاء على الأهل والغضب على المقاول، هما أرفع أنواع الحب في مثل هذا الموقف”.

ولذا كانت كل دواوينه كتلة من النار يكوي بها جلود الدكتاتوريات بكل تجلياتها.. يقول في ذلك الشأن:” ألقيت بنفسي مبكرًا في دائرة النار، عندما تكشفت لي خفايا الصراع بين السلطة والشعب، ولم تطاوعني نفسي على الصمت أولًا، وعلى ارتداء ثياب العرس في المآتم ثانيًا، فجذبت عنان جوادي ناحية ميدان الغضب” وهو الخيار الذي نقله من “هامش” الشهرة إلى “متنها” في العالم العربي.

“السيف والمزمار”

سدّد “مطر” أيضًا فواتير باهظة لانحيازه إلى آلام مواطنيه، إذ قُتل شقيقه الأصغر في حادث سيارة مُفتعل، ورأى شقيقَه الآخر ورأسه متدلٍّ من على حبل المشنقة بعد إعدامه وذاق مرارة السجن والتعذيب والمطاردة من بلد لآخر!

ومن بين هذا الطيف كان الشاعر الفلسطيني محمود درويش “شاعر المقاومة” الذي سُجن عدة مرات في سجون الاحتلال، وقضى معظم سنوات عمره مشردًا ولاجئًا.. وكذلك العراقي مظفر النواب المُلقب بـ “شاعر القصيدة المهرّبة” والذي حُوكم عسكريًا وسجن وعذب في كل عصور العراق، وفي إيران على يد “السفاك” حتى الشاعر اليمني “الكفيف” عبد الله البردوني “1929 ـ 1999″ لم يمنعه فقدانه البصرَ، من أن يكون من بين أحد أهم شعراء المقاومة في العالم العربي.

القائمة ليست طويلة فهي تقريبًا حصرية على عدد محدود من المجددين الكبار في الشعر العربي الذين كتبوا بـ”حد السكين”.. ونقلوا القصيدة العربية من “المحلية” ومن رتابة تدوير الشعر المنبري والوعظي والغزلي “القديم” لتكون أقرب رحمًا للعالم في إنسانيته، حتى بات تمثال “نزار قباني” في “كليفلاند” بحديقة “روكفلرجاردنز” موجودًا بين تماثيل أعلام الثقافة في العالم، والأشخاص الأكثر إلهامًا على مر العصور مثل “وليام شكسبير”، “المهاتما غاندي” و”نيتشه” وغيرهم.

فضلًا عن “درويش” الذي أحدثت وفاته صدمة في الوسط الإبداعي الفرنسي، وكتب حينها أشهر شعراء باريس “برنار مازو” قصيدة “السيف والمزمار” في رثائه، وهي من أجمل قصائد الرثاء الفرنسية.

ويبقى أن أشير هنا إلى أن ظاهرة التخلي عن قضايا الهم العام، كانت موجودة وحاضرة بين ظهرانَي هذا الجيل من شعراء المقاومة، ولعل ذلك كان جليًا في قول نزار: ” ثلاثة أرباع الكتّاب العرب (موظفون مدنيون) يكتبون وفي جيوبهم بوليصة تأمين ضد الفقر والمرض والشيخوخة والطرد التعسفي”. غير أن الخلود كتب لمن انحاز لهموم الأمة، فيما مات شعر من تخلّوا عنها بموتهم وانتقالهم إلى الرفيق الأعلى.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.

شاركها.
Exit mobile version