عقب الزلزال الذي هز أراضي تركيا وسوريا في فبراير/شباط 2022، اكتشف عدد كبير من مستخدمي الإنترنت العربي أن رجلًا هولنديًّا يُدعى فرانك هوغربيتس، يصف نفسه بأنه خبير في الزلازل، كان قد توقّع قبل ذلك بوقت قصير زلزالًا قويًّا في نفس المنطقة المتضررة. ومنذ ذلك الحين، يظهر اسم الخبير الهولندي مشفوعًا بادعاءات صاخبة، حول زلازل قوية أخرى تصل شدتها إلى سبع أو ثماني درجات على مقياس ريختر. أما هذه المرة، فقد أثار الجدل بحديثه عن أهرامات الجيزة المصرية قائلا إن هندستها، عندما يتم بحثها بشكل صحيح، تحمل أدلة على معرفة متقدمة جدا، لا يمكن وفقًا لفهم العصر الحديث أن تكون موجودة في ذلك الزمن البعيد.

تحدثنا من قبل عن أهرامات الجيزة وغيرها من آثار العالم القديم وادعاءات الحضارة المفقودة المتعلقة بها في مادة مفصلة بعنوان “لماذا لا يصدق البعض أن المصريين هم من بنوا الأهرامات؟”، لذا لا حاجة لنا في تفنيد هذا الادعاء الآن، لكن انتشار أخبار هوغربيتس خلال شهور عديدة وتوقعاته المستمرة للزلازل يحتاجان منا إلى بعض التفكير في طبيعة المنهجية العلمية ومحدداتها. ذلك أن هذه المنهجية ستجيبنا عمّا إذا كان هذا الرجل يروج لعلوم زائفة؟ وهل يمكن -حقًّا- الاعتماد ولو بشكل جزئي على فرضياته؟

 

تأثير المشتري

حسنًا، لنرجع بالزمن إلى عام 1974، حينما أصدر الفيزيائي الفلكي البريطاني الشهير جون جريبن بالتعاون مع عالم آخر هو ستيفن بلاجمان كتابًا بعنوان “تأثير المشتري”، لاقى الكثير من الاهتمام وبِيعت منه ملايين النسخ. يتحدث الكتاب عن أثر محتمل للاقترانات الكوكبية في السماء في بعض أنواع الكوارث على الأرض، ومنها الزلازل. وتوقع كلاهما -من ضمن عدد من التوقعات- حدوث زلزال في فالق سان أندرياس في ولاية كاليفورنيا بالولايات المتحدة الأمريكية في يوم 10 مارس/آذار عام 1982.

محاذاة الكواكب تعني وقوفها في جانب واحد من الأرض، فمثلا يمكن أن تنظر في ليلة إلى السماء فتجد أن المشتري والزهرة يتجاوران فيها بعد الغروب، وهذا شيء طبيعي ومتكرر، وفي بعض الأحيان يدخل إلى تلك المحاذاة عدد أكبر من الكواكب، وفي أحيان نادرة يمكن لمعظم الكواكب أن تكون في جانب واحد من الأرض وتكون الشمس في الجانب الآخر. في هذه الحالة تحديدًا يمكن لأثر الجاذبية المجتمع من هذه الكواكب أن يصل إلى الأرض.

المشتري والزهرة في اقتران بعد الغروب (فليكر)

لكن حتى قبل صدور هذا الكتاب، كان علماء الفلك والجيولوجيا متفقين على أن تأثير محاذاة الكواكب في الأرض، لا يمكن أن يصل إلى درجة إحداث الزلازل؛ لأن تلك الكواكب بعيدة جدًّا عن الأرض، أما القمر (الصغير جدا مقارنة بتلك الكواكب لكنه قريب نسبيًّا من الأرض) فله أثر أقوى منها مجتمعة، وهو ما يتضح في حالة المد والجزر، حيث يمكن للقمر بالفعل أن يتحكم في حركة بحار ومحيطات الأرض بقوة جذبه، لكننا لا نلحظ هذا الأثر مثلا مع محاذاة الكواكب.

جريبن ورفيقه سعيا إلى تجنب هذه الاعتراضات بسلاسة من خلال النظر في تأثير المحاذاة، ليس في الأرض بشكل مباشر، ولكن في الشمس، ثم افترضا أن الشمس ستؤثر في الأرض عبر إبطاء دورانها بمعدل يسمح بتهتك أكبر من المعتاد في القشرة الأرضية؛ مما قد يتسبب في عدد من الكوارث، منها زلزال سان أندرياس المحتمل بحسب توقعات العالمين.

مر العاشر من مارس/آذار بسلام، وفي شهر أبريل/نيسان التالي نشر جريبين وبلاجمان كتابًا أقل بيعًا بعنوان “إعادة النظر في تأثير المشتري”، قالا فيه إن التأثير قد حدث بالفعل عام 1980، على الرغم من عدم وجود محاذاة كوكبية في ذلك الوقت، وإنه تسبب في ثوران بركاني لجبل سانت هيلين غربي ولاية واشنطن الأمريكية، وفي عام 1990 أعلن جريبن أنه أخطأ في فرضيته، واعتذر عن علاقته بهذا الموضوع أصلًا.

لكن على الرغم من ثبوت خطأ تلك الفرضية، فإن ما فعله العالمان في هذا الكتاب هو ما يمكن بالفعل أن نسميه “التنبؤ بالزلازل”، حيث يحدد الجيولوجيون التنبؤ بالزلازل بأنه القدرة على تحديد مكان وموعد ومقياس الزلزال بدقة، كأن تقول إن شمالي الجزائر، على سبيل المثال، سيشهد -لا قدر الله- زلزالا بقوة 6.8 على المقياس في يوم 15 أكتوبر/تشرين الأول القادم.

 

كيف تتنبأ بزلزال؟

لا يمكن هنا للتوقعات الأكثر عمومية أن تعبر عما يقصده العلماء من اصطلاح “التنبؤ بالزلازل”، لأن أي خرق لتلك القاعدة لن ينقذ الناس من زلزال قريب، فمثلا سيكون كاتب هذه المادة صادقًا حينما يقول لك إن تركيا ستشهد زلزالًا أعلى من 7 درجات على المقياس قريبًا ولا يحدد لك الموعد بدقّة، ويمكن أن يحدد نطاقًا زمنيًّا كأن يقول خلال 10 سنوات ويكون صادقًا كذلك، وذلك لأن بعض المناطق في العالم تشهد بالفعل معدلات زلازل أكبر من غيرها.

عند هذه النقطة دعنا نتأمل ما يسميه العلماء “حلقة النار” أو “حزام ما حول المحيط الهادئ”، وهي ليست حلقة بالمعنى الذي قد يتبادر إلى الذهن، بل هي شريط جغرافي طوله نحو 40 ألف كيلومتر يشبه شكل حدوة الحصان شهد 81% من زلازل العالم الكبرى، ويمتد حول المحيط الهادئ، بداية من جنوب قارة أميركا الجنوبية عبر خندق بيرو-تشيلي، وصولا إلى خندق أميركا الوسطى، وينطلق بعد ذلك صعودا في أميركا الشمالية بمحاذاة جبال روكي إلى ألاسكا، ثم عبر مضيق بيرنغ إلى اليابان نزولا إلى الفلبين وإندونيسيا، ثم في النهاية نيوزيلندا.

إلى جانب حزام حلقة النار، يوجد حزام آخر يجري على اليابسة يسمى “الحزام الألبي”، وهو حزام زلزالي وجبلي يمتد أكثر من 15 ألف كيلومتر على طول الهامش الجنوبي من قارتي آسيا وأوروبا، فيبدأ من جاوة وسومطرة، ثم يمتدّ عبر شبه جزيرة الهند الصينية، ثم جبال الهيمالايا وما وراءها، ثم جبال إيران والقوقاز والأناضول وصولا إلى البحر الأبيض المتوسط، وحتى المحيط الأطلسي، هذا الحزام مسؤول عن 17% من الزلازل الكبرى في العالم.

تصميم: 98% تقريبا من زلازل العالم الكبرى في مئة سنة تقع بين حلقة النار والحزام الألبي
(الجزيرة)

أثر الحزام الألبي يمتد ليصل إلى تركيا وهو ما يضعها في منطقة زلزالية نشطة، حيث تقع على صفيحة صخرية صغيرة تسمى صفيحة الأناضول، تندفع إلى الغرب بفعل حركة صفيحتين كبيرتين مجاورتين، الأولى هي الصفيحة الأوراسية من الشرق والشمال، والثانية هي الصفيحة العربية جنوبها، ويضاف إلى ذلك تأثير حركة الصفيحة الأفريقية. تشابك تلك التحركات يضع تركيا تحديدا في منطقة حرجة زلزاليا. ويصل أثر هذا الحزام كذلك إلى المغرب التي يقع كذلك على أطراف الحزام الألبي، وقد شهد زلزالًا بقوة 6.8 في سبتمبر 2023، ولو أن احتمالات وقوع الزلازل فيه أقل من تركيا.

يجري نفس الأمر على مناطق مثل غربي الولايات المتحدة الأمريكية وألاسكا وعدد من المناطق في أمريكا الجنوبية مثل شيلي ودول مثل اليابان وسومطرة وإندونيسيا؛ لأنها جميعا تقع في مناطق حرجة تتلقى أكبر الزلازل في العالم بسبب طبيعتها الجيولوجية، ويمكن للعلماء أن يعطوا درجات من الترجيحات لهذه المناطق، حيث يُحتمل مثلا بنسبة 72% أن تختبر ولاية كاليفورنيا زلزالا كبيرا على أي نقطة في فالق سان أندرياس، خلال ثلاثة عقود، وتنخفض النسبة إلى نحو 30% في بعض المناطق في اليابان.

أضف إلى ذلك أنه لا يمكن توقع زلزال بدون تحديد الموقع، لأن الزلازل -على غير ما قد تظن- ليست ظاهرة نادرة، إذ تشهد الأرض سنويًّا ما يزيد على مليون زلزال نصفها يمكن رصده بأجهزة قياس الزلازل و100 ألف منها قابلة للشعور بها لكن 100 فقط يمكن أن تسبب ضرارًا وما بين 15 و20 زلزالا منها تكون مؤثرة جدا (فوق مقياس سبع درجات)، بلدك مثلا يسجل سنويا العديد من الزلازل التي تعلنها الهيئات المختصة، ولذلك لو قلنا لك إن هناك زلزالا سيحدث اليوم لكنا صادقين تماما بنسبة 100%، لأننا ببساطة لم نحدد الموقع.

إذن يمكن للعالم بالفعل أن يقدم توقعات للزلازل، لكن في إطار احتمالي، يعتمد على تحديد المناطق الأكثر نشاطًا زلزاليا دون غيرها، لكن لا يمتلك العلماء أية وسيلة إلى الآن للتنبؤ بناء على المعايير الثلاثة السالف ذكرها.

 

والآن، لنعد إلى “الخبير الهولندي”

في تلك النقطة تحديدًا، وبعد مقدمة طويلة لكنها ضرورية، يظهر خبير الزلازل الهولندي، فرانك هوغربيتس الذي لا نعرف تخصصه، فهو فقط “خبير زلازل”.

بعد بحث طويل، لم نجد اسمه في قواعد بيانات الورقات العلمية المنشورة في الدوريات المختصة، وهذا غريب حقًّا فعادة ما تكون للباحث أبحاث منشورة باسمه خضعت لما يعرف بمراجعة الأقران. النظرية التي يعتمد عليها هوغربيتس هي نفسها نظرية تأثير المشتري، حيث يعتقد أن محاذاة الكواكب لها تأثير في الأرض، يصل إلى درجة إحداث الزلازل.

لنبدأ الآن بتطبيق ما ناقشناه على الخبير الهولندي. أول معرفتنا به كانت حينما كتب قبل زلزال 6 فبراير/شباط المدمر في تركيا وسوريا أنه يتوقع أن يحدث زلزال في منطقة تقع بين سوريا وتركيا “عاجلا أم آجلا”، هذا الموقع لا يحمل سمات التنبؤ الثلاث، وذلك لأن الحدود بين سوريا وتركيا تقع بالفعل ضمن منطقة نشطة زلزاليا كما أسلفنا، شهدت الكثير من الزلازل على مرّ التاريخ.

(الجزيرة)

لكن دعنا نفترض جدلا أن الباحث الهولندي كان يقصد بـ”عاجلا أم آجلا” الأيام القليلة القادمة، ومن ثم يكون تنبؤه صحيحًا، هنا نحن أمام احتمالين لا ثالث لهما، فإما أن يكون ما حدث مجرد صدفة وإما أن يكون نظرية علمية جديدة ستكون الطفرة الحديثة الأهم في العلم كله، فكما هو معلن من قبل الهيئات البحثية المختصة؛ لا يمتلك العلماء أية نماذج أو أدوات يمكن من خلالها التنبؤ بالزلازل.

في هذا السياق دعنا نبدأ بالاحتمال الثاني، وهو أننا أمام عبقري اكتشف نظرية جديدة، لكن المنهجية العلمية تقضي بأن تُنحّى الصدف وأخطاء التنفيذ والتحيزات عن طريق التكرار، يعني ذلك أنه إذا نجحت في تحقيق نتيجة ما بأحد التجارب، فإن ذلك لا يعني أن نعامل النتيجة التي توصلت إليها على أنها حقيقة علمية، فقد تكون هذه النتائج مجرد مصادفة أو خطأ في استخدام الأدوات أو أنك تحيزت في أثناء تنفيذ تجربتك للحصول على نتيجة بعينها كانت محددة مسبقا، خاصة أن الزلازل التي تضرب كوكبنا ليست قليلة العدد.

لذلك يجب على علماء آخرين استخدام نظريتك وتكرار هذه التجربة والحصول على نتائج شبيهة، لكي نقول إن نظريتك صحيحة. في هذه النقطة تحديدًا ربما يجب أن نوضح أن فرانك هوغربيتس ليس شخصًا قليل التنبؤات. الرجل يتنبأ بالزلازل على الأقل مرتين أسبوعيًّا منذ سنوات عديدة، ويلقي بالتوقعات جزافًا هنا وهناك. فمثلا في 2015 توقع أن تُضرب كاليفورنيا بزلزال بقوة 8.8 على المقياس، ولم يحدث الزلزال ومر العام بسلام. وتوقع زلزالًا آخر في 2018 بسبب محاذاة كوكبية لكنه كذلك لم يحدث، ويمكن لك أن تأخذ جولة في حسابه على تويتر لتجد أنك على وشك الغرق في بحر من التنبؤات بالزلازل.

أضف إلى ذلك أن الرجل في كثير من الحالات لا يقول توقعات محددة، بل إن غالبية توقعاته تقع في نطاق: “نشاط زلزالي محتمل في هذه المنطقة”، وعادة ما تكون تلك المنطقة واسعة وممتدة على الكوكب، وهذا لا يمكن أن يحسب توقعًا، لأن عدد الزلازل كبير وهناك مناطق بالفعل أكثر احتمالا لتلقي الزلازل، بل يجب أن تكون التوقعات محددة تماما بالوقت والمقياس والموضع، كما أسلفنا. الأرض تشهد سنويا العديد من الزلازل المؤثرة؛ لذا ينبغي أن يضع لنا الرجل توقعات محددة، ثم ننطلق في تطبيق نظريته.

يعني ذلك أن ما وصل إليك لم يكن سوى تنبؤ واحد نجح من بين آلاف التنبؤات، ألا يعني ذلك أن ما حدث يمكن أن يكون مجرد صدفة؟ في الحقيقة هناك مفهوم ربما يساعدنا على إدراك تلك الفكرة، إنه قانون الأعداد الكبيرة حقًّا (Law Of Truly Large Numbers)، الذي ينص على أنه في عينة ضخمة جدًّا يمكن لأي حدث مهما كان شاذًّا أن يحدث، ومن أشهر التقديرات التي نقولها دلالةً على ضعف احتمال ما “مرة في المليون”، لكن في شعب عدد أفراده 20 مليون شخص، هناك بالفعل فرصة لشيء ما كي يحدث.

 

العبث بنظرية الاحتمالات

كلما ازداد عدد المشاركين في العينة أصبحت الاحتمالات الضعيفة أقرب إلى التحقق، هذه اللعبة تحديدًا تستخدم في الاحتيال، لنفترض أن أحدهم على الإنترنت يعمل منجمًا، وأخبرك أنه سيتمكن بنسبة مئة في المئة من توقع عشر لفات للعملة ستجريها على التوالي، فسيقول: “صورة”، ثم تلف العملة للأعلى، وترى أنها بالفعل قد أظهرت الصورة بعد سقوطها، ثم سيقول: “كتابة”، وتجد أن العملة بالفعل أظهرت الكتابة بعد سقوطها، ثم بعد 10 مرات من الاحتمالات لن يطلب أي شيء منك، فقد حصل بالفعل على مراده، وهو أنك أصبحت تؤمن به، وفي المستقبل ستطلب منه الكثير من الخدمات، لأنك متأكد أنه يمتلك قدرة ما خارقة!

الآن دعنا نتأمل الأمر من منظور أعلى، هذا المحتال لا يلعب مع شخص واحد فقط، بل مع نحو ألفين وخمسمئة شخص، ومع كل واحد منهم، فإنه يتنبأ عشوائيًّا بالاحتمال القادم، حيث يضع احتمال “صورة” لنصف العدد (1250 شخصا)، واحتمال “كتابة” للنصف الآخر، وسيصيب في بعض الحالات، ويخطئ في بعضها، هؤلاء الذين اكتشفوا خداعه سيتركون اللعبة، أما البقية فإنه سيستمر معهم في نفس اللعبة، حيث يتنبأ لنصفهم بـ”صورة”، وللنصف الآخر بـ”كتابة”، وهكذا تستمر السلسلة في التقدم، وهناك احتمال ضعيف بأن يتمكن بالفعل من التنبؤ بعشر لفات قبل أن تحدث، لكنه احتمال تحسبه نظرية الاحتمالات بقيمة 1 لكل 1024 حالة؛ مما يعني أنه في 2500 حالة ستكون هناك احتمالية مناسبة لأن ينجح، إنها حالتك أنت.

لو افترضنا -مثلًا- أنك كل عام نشرت عشرات التنبؤات السياسية على فيسبوك، ولتكن مثًلا: “الرئيس القادم سيُقتل في عامه الثالث”، أو “سيدة من المعارضة ستستولي على الحكم”، أو “ستسقط الحكومة في العام الثاني من انتخابها” إلخ، ثم في مرة من المرات تحقق أحد تلك التنبؤات، فهنا يمكن لك إبراز هذا التنبؤ أمام الجمهور، ثم تدلل من خلاله على حنكتك السياسية، أو ربما أنك نوستراداموس العالم المعاصر، إلا أن الصورة الكبرى تتضمن مئات التنبؤات التي توقعتها على مدى سنوات طويلة، وكلها كانت خاطئة، كل المطلوب أن تسمح نظرية الاحتمالات بحدوث واحد منها حتى تصبح نجمًا إعلاميًّا جديدًا.

المنجمون أيضًا يتلاعبون بهذه الفكرة، فيطلقون مئات من التنبؤات يُتوقع أن يحدث واحد منها إلا أن احتمال حدوث كلٍّ منها على حدة ضعيف جدًّا، لكن المنجم في هذه الحالة يخفي كل ما سبق من تنبؤات، ويبرز هذا الجديد، فينهال الناس عليه بالتصديق.

يعيدنا ذلك إلى السؤال المهم: هل يمكن أن يكون ما حدث مع الخبير الهولندي أمرًا مماثلًا لذلك؟ الرجل ببساطة يلقي بالعديد من التوقعات سنويًّا وصادف أن أحدها حصل! حسنًا، لو تأملت الأمر قليلا لوجدت أن ذلك هو الاحتمال الأقرب إلى الصواب، فتوقعات الرجل السابقة (الكثيرة) التي حددت المقياس والوقت وقوة الزلزال لم تنجح، وتوقعاته العامة لا تتفق مع المعايير الثلاثة للتنبؤ بالزلازل (الوقت والمقياس والمكان)، ويمكن لأي أحد القيام بتوقعات من نوع “زلزال قريب هنا” أو “نشاط زلزالي محتمل خلال الشهر القادم” كما أسلفنا، بما في ذلك كاتب هذا التقرير أو قارئه.

حينما نقول إنه يجب علينا التعامل مع خبير الزلازل الهولندي على أنه “مجرد مخرف” فنحن لا نقصد إهانة الرجل، بل نقصد أنه حينما يكون الحدث كبيرًا جدا ونود أن نصل إلى الحقيقة، يجب أن نبدأ بتنحية عامل الصدفة والتحيز، وبالتالي نُشكك في صحة هذه الفرضية التي لا يقتنع بها هذا النطاق البحثي أصلا، ونطالب الخبير الهولندي بعدد من التوقعات المحددة جدا كي نكرر نتائج نظريته، يجب أن نفعل ذلك مع كل صاحب فرضية جديدة من هذا النوع.

 

حلم التنبؤ بالزلازل

يأتي ذلك كله في سياق مهم، وهو أن التنبؤ بالزلازل يعد عملية غاية في التعقيد، حدوث التصدعات في الصخور التي ترتبط بالزلازل يرتبط بعدد كبير من العوامل التي لا يمكن العلماء إجمالها في نظام تنبؤ دقيق، فمثلا قد تتداخل بعض الصخور بعنف لكنها تكون لينة فتتحمّل الصدمات، وقد تكون جافة فتتحطم فور اصطدامها وتتسبب في زلزال كبير، ولا يمتلك العلماء أية طريقة للتنبؤ بحالة تلك الصخور التي تمتد على مدى آلاف الكيلومترات.

أضف إلى ذلك أن تلك التصدعات لا تتحرك داخل الصخور باتجاه واحد، بل تتشعب مثل فروع الشجرة، حدوث تلك التشعبات يتعلق بطبيعة كل قطعة صخرية داخل القشرة الأرضية ودرجة حرارتها، وهو أمر من الضخامة والتعقيد بحيث لا يمكن دراسته بشكل كامل.

في الحقيقة، فإن سمك القشرة الأرضية يتراوح بين 30 و70 كيلومترا في القارات، وبين 6 و12 كيلومترا في أعماق المحيطات، ولا يمكن للعلماء الوصول إلى هذا العمق في كل مكان من أجل دراسته، فأعمق حفرة تمكن البشر من حفرها بلغت 12 كيلومترا فقط، وهي بئر كولا العميق، وكان مشروعا علميا لاستكشاف قشرة الأرض أجراه علماء الاتحاد السوفييتي وبدأ في 1970.

كل هذا ولم نتحدث بعد عن أثر الجاذبية الأرضية الذي يختلف من مكان إلى آخر، وحركة طبقة الوشاح أسفل طبقة القشرة، وهي الطبقة التي تقع بين نواة الأرض الكثيفة الشديدة الحرارة وقشرتها الخارجية الرقيقة، يبلغ سمك طبقة الوشاح حوالي 2900 كيلومتر! وهي تتنوع في درجات الحرارة والرطوبة واللزوجة بشكل يؤثر تأثيرًا مختلفًا في القشرة السابحة فوقها.

إلى جانب ذلك، فإن طبيعة تحركات الصفائح الصخرية المكونة لقشرة الأرض (الصفائح التكتونية) التي تتسبب في غالبية الزلازل غير مفهومة تمامًا، فهي حركة بطيئة جدًّا وتتحرك بشكل يبدو للعلماء عشوائيًّا تمامًا، وبالتالي فإن تداخل أي منطقة بين الصفائح التكتونية لإحداث الزلازل هو أمر ممكن نظريًّا في أي وقت.

لكن رغم ذلك، فإن محاولات العلماء لم تتوقف، إذ لاحظ فريق منهم مثلا أنه قبل حدوث الزلازل فإن البيئة في موقع الزلزال تشهد بعض التغيرات مثل زيادة تركيزات غاز الرادون، وهو غاز يتكون من التحلل الإشعاعي لبعض المركبات الموجودة في الصخور، وقد تصور العلماء أن الشقوق الصغيرة التي تنشأ في الصخور قبل حدوث الزلزال تغير من نفاذية باطن الأرض ويهرب الغاز إلى السطح، حيث يمكن اكتشافه.

الأجهزة الدقيقة للكشف عن غاز الرادون في البيئة الطبيعية (شترستوك)

في العقد الماضي، خلصت بعض الدراسات إلى أن التركيزات المرتفعة لغاز الرادون في التربة أو المياه الجوفية يمكن أن تكون علامة على وقوع زلزال وشيك، وعلى الرغم من أن بعضا من الباحثين استخدم هذه الطريقة للتنبؤ بزلزال لاكويلا في إيطاليا عام 2009، فإن هذا النجاح لم يتكرر في مرات تالية، ولذلك فإن معظم العلماء ما زالوا متشككين في صحة هذه الطريقة.

وإلى جانب ذلك فقد لاحظ الناس منذ قديم الزمان أن الحيوانات قد تتأثر باقتراب الزلازل، بل رصدت بعض الدراسات هذا السلوك، حيث قام باحثون من معهد ماكس بلانك لسلوك الحيوان بربط أجهزة تفحص سلوك الأغنام والكلاب والأبقار في مزرعة إيطالية على مدى شهور أبلغت السلطات المختصة خلالها عن وقوع أكثر من 10 زلازل بقوة 4 درجات على المقياس أو أعلى.

وبحسب هذه الدراسة التي نشرها الفريق في دورية “إيثولوجي” في 2020 فقد تبين أن الحيوانات قد أظهرت أنماطًا سلوكية غير معتادة قبل حوالي يوم كامل من حدوث الزلزال واستمرت مدة ثلاثة أرباع ساعة، وأظهرت الدراسة كذلك أنه كلما اقتربت الحيوانات من مركز الزلزال فإن سلوكها الغريب يكون أوضح وكانت تبدأ فيه قبل أقرانها البعيدة عن مركز الزلزال.

لكن لا تزال الكيفية التي يحدث بها ذلك غير واضحة بالنسبة للعلماء، والأهم أنه على الرغم من أن بعض الدراسات قد رصدت استجابة الحيوانات للزلازل، فإن الحيوانات لم تستجب بشكل صائب في كل مرة، ففي بعض الأحيان استجابت الحيوانات ولم تكن هناك زلازل، وفي بعض الأحيان لم تستجب الحيوانات ولم تكن هناك زلازل، ولذلك فإن استخدامها للتنبؤ بالزلازل ليس مفيدا حتى الآن.

بعض الملاحظات الأخرى تعلقت بأضواء الزلازل. في بعض الأحيان تُلاحظ ظواهر مثل البرق والتوهجات في السماء بالاقتران مع الزلازل وبالقرب من مركز الزلزال، تسمى أضواء الزلازل، لكن إلى الآن يختلف الجيوفيزيائيون في مدى اعتقادهم حول صحة تلك الظاهرة، فقد تكون التقارير الفردية للإضاءة بالقرب من الزلزال راجعة لأي شيء مثل مشاكل خطوط الكهرباء، وقد تكون صحيحة.

وفي حالة صحتها فإن العلماء لا يعرفون بدقة أسباب تلك الظواهر، إذ يرى فريق منهم أن تلك الأضواء قد تكون ناتجة عن الشحنات الكهربائية التي يتم تنشيطها في أنواع معينة من الصخور أثناء النشاط الزلزالي الذي يضغط على تلك الصخور، ويرى فريق آخر أن ضغط الصخور في الزلازل يوجد ما يسمى التأثير الكهرضغطي، حيث تنتج الصخور الحاملة للكوارتز مجالات كهربائية قوية عند ضغطها بطريقة معينة، ويتصور فريق ثالث من العلماء أنها تفاعلات بين مركبات الغلاف الجوي وغازات خرجت من شقوق أحدثتها الزلازل قبل أو أثناء تكونها.

لكن للأسف حتى بافتراض صحة تلك الظاهرة، فإنها لا يمكن أن تستخدم للتنبؤ بالزلازل، أولا لأنها لا تظهر في كل الزلازل، وثانيًا لأن تلك الأضواء قد تظهر ولا تحدث زلازل، أو قد تحدث زلازل من دون أضواء، ولذلك فإنه لا يمكن استخدامها أداة في هذا النطاق.

بحسب هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية فإنه لم يتمكن أحد إلى الآن من امتلاك القدرة على التنبؤ بالزلازل (شترستوك)

وينطلق الأمر إلى خرافات كاملة في هذا النطاق، حيث يتصور الناس أن البعض يصاب بأعراض مثل الغثيان أو أي من الأعراض الأخرى مثل الصداع أو اضطراب البصر، قبل وقوع الزلازل، لكن لا توجد أية دراسات تؤكد هذه الظاهرة، وقد يكون الأمر أن البعض أصيب بأعراض مثل الغثيان أو حرقة المعدة ثم يحدث زلزال فيربط هذا بذاك. تعرف “الحساسية للزلازل” بأنها حالة تحدث لبعض الأشخاص حيث يمكنهم أن يمتلكوا حساسية اتجاه ضربات الزلازل الوشيكة، التي تتجلى في الأحلام أو الرؤى أو المشاعر العنيفة أو الأعراض الفسيولوجية مثل طنين الأذن أو الغثيان أو غيرها من الأعراض. يشير المروجون لتلك الفرضية إلى أنها تحدث بسبب الحساسية للمجال الكهرومغناطيسي أو انبعاثات بعض الغازات التي قد تصحب الزلازل، لكن في النهاية لا يوجد دليل علمي موثوق به على مثل هذه الآثار، ولا أي نظرية حول كيفية إدراك هذه الآثار، وتعد الحساسية للزلازل علما زائفا تمامًا.

وبحسب هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية فإنه لم يتمكن أحد إلى الآن من امتلاك القدرة على التنبؤ بالزلازل، والادعاءات التي تنتشر من حين إلى آخر وتتعلق بالقدرة على التنبؤ بالزلازل إما أنها لا تستند إلى أدلة علمية، وإما أنها لا تحدد العناصر الثلاثة المطلوبة للتنبؤ (الوقت، القوة، الموقع) فتكون عامة جدًّا لدرجة أنه سيكون هناك دائمًا زلزال مناسب. وتضيف الهيئة أن كل ما يمتلكه العلماء حتى اللحظة هو فقط درجات من الاحتمال، كما أسلفنا.

حاليا، يأمل العلماء أن تتمكن قدرات الذكاء الاصطناعي من فهم كل التعقيد الكامن في القشرة الأرضية عبر تجميع البيانات والبحث عن أنماط خلالها، وكان فريق من الباحثين قبل عدة سنوات قد تمكن بعد الاستماع إلى إشارة صوتية منبعثة من زلزال تم إنشاؤه في المختبر، من استخدام التعلم الآلي للتنبؤ بالوقت الباقي قبل حدوث الزلزال. وبحسب الدراسة التي نشرها هذا الفريق في دورية “جيوفيزكال ريسيرش ليترز”، فإن الضوضاء القادمة من منطقة الصدع في المختبر قبل حدوث الزلزال قد وفرت معلومات حول موعد انزلاق الصفائح التكتونية، لكن الأمر لا يزال موضع دراسة.

 

عالم من الخرافات

يظل ما فعله الخبير الهولندي مهمًّا في توضيح الفرق بين بديهتنا والمنهج العلمي في التفكير، لأننا في خضم الأحداث الكبرى تحديدا ننزع للتوتر والخوف فنفتقد التفكير العقلاني ونقع فورًا في أسر التفكير غير السليم. سنقول في أنفسنا: “رجل يتنبأ بالزلزال الكارثي الذي قتل أكثر من 50 ألف شخص؟ لا يمكن أن يكون ذلك مجرد صدفة”، لكن القواعد البسيطة لنظرية الاحتمالات، تقول إن ذلك ممكن جدا.

في الواقع وخلال الفترة السابقة كانت قصة الخبير الهولندي هي أقل الأخطاء الشائعة في الفهم وطئًا، فقد سافر الأمر إلى خرافات بحتة، عن الكائنات الفضائية والتحكم في الزلازل عن طريق أجهزة خفية تمتلكها مجموعة من الأشرار، بل تطور الأمر إلى ظهور الدجال ونهاية العالم!

الأسوأ من ذلك هو كم الرعب الذي يحيط بكل هذه الفوضى، في سياق الكوارث الكبرى، يصاب الجمهور بصورة غير مرضية من اضطراب ما بعد الصدمة، فتنتشر الأفكار السلبية عن نفسك أو الآخرين أو العالم، ويصبح اليأس من المستقبل قاعدة أساسية، ينتشر الشعور بالذعر أو الخوف بسهولة، ويكون هناك انتباه دائم لوجود خطر، تستغل هذه الحالة الكثير من الصفحات، بل والمنصات الإخبارية للترويج لكل ما يتسبب في الرعب حتى لو كان غير مبني على قاعدة علمية رصينة.

وللأسف، فإن بعض المنصات الإخبارية العربية انساقت وراء الخبير الهولندي وتنبؤاته التي تلفت انتباه الناس، وروجت لخرافات التسونامي والزلازل الكبرى القادمة، دون النظر حتى إلى ما يقوله العلم في هذه القضايا، ولم يدرك أحد من هذه المنصات كم الألم والرعب وترويع الآمنين الذي يحدث، فالهدف هو فقط إقبال الجمهور!

شاركها.
Exit mobile version