الفجائع المتتالية هي أول ما يخطر على البال حين تذكر دارفور، فالإقليم الواقع في الغرب السوداني، والذي ارتبط عند السودانيين بخلاوي القرآن وبالمَحْمَل الشريف وبسلطنته العريقة المستقلة، صار قرين نزاعات قبلية، تندلع عادةً بين قبائل رعوية وأخرى قاطنة مستقرة.

بعد روايته “جوهرتان في أكفان الموتى” الصادرة قبل عامين ونصف، عاد الروائي السوداني مبارك أحمد عثمان لتناول الحياة السودانية في تحولاتها الراهنة، وأصدر أخيرا رواية “أرواح الشرتاي الـ7” (2023) عن مؤسسة أبجد للترجمة والتوزيع والنشر بالعراق.

تدور أحداث الرواية في عالم جديد تماما في فضاء مدرسة أدب الحرب الأفريقية الجديدة، غير معروف حتى الآن لدى الكثير من النقاد، كونه يتناول -إلى جانب حرب دارفور- صفات الأنفس السبع (النفس الأمارة بالسوء، واللوامة، والملهمة، والراضية، والمرضية، والمطمئنة، والنفس الكاملة) بتقنيات سردية تمتح من براحات وحياض علم النفس.

ويلات الحروب

ومن جانب، تهدف رواية عثمان (المولود بمدينة القضارف بالسودان عام 1971) لنقل المعاناة وويلات الحروب في قالب روائي مشوق، لتفتح أنظار القراء الذين لم يألفوا حياة الحرب وعالمها الوحشي التي غرستها “مليشيا الجنجويد” في المجتمع الدارفوري المتنوع ثقافيا وعرقيا واجتماعيا، حيث يعمد الراوي إلى تعرية الحرب وكشف دواعيها السياسية والاقتصادية.

وكذلك صور سرد الرواية -التي استخدم فيها الروائي تقنية الراوي العليم- التسامح الديني بين المسلمين والمسيحيين من خلال بطلي الرواية: الشرتاي “آدمو فتاك” والراهبة “كلارا خوري”، حيث إنهما واجها كثيرا من المتاعب والمغامرات في حياتهما الدينية. و”الشرتاي” هو لقب شيخ القبائل في دارفور.

دارفور.. أمل من رماد

فبطل الرواية، أُكره على حمل السلاح إبان الخدمة الإلزامية، فخاض “متون الجهاد” قسرا في جنوب السودان، وأصبح قناصا للدبابات والمجنزرات، وأحد “الدبابين” الذين ينتزعون دائما النصر من براثن الهزيمة، في معارك تجلت فيها البسالة والتضحيات، قبل أن يكتشف فجأة أن الحرب سياسية، وما هو إلا وقود للحرب.

وفي جنح الظلام يتسلل الأدغال منقلبا إلى قريته، فيعيش فيها آمنا مطمئنا إلى أن أقبلت مليشيا الجنجويد غازية، فأقامت فيهم مقتلة عظيمة، ورأى بأمّ عينيه قذائف طائرات الأنتنوف تدك أكواخ أسرته وتسويها مع الأرض هدما وإحراقا، ويفر مجنون العقل تاركا وراءه جسد أبيه وجبة للغربان، وينتهي به الفرار بدخول مصر حافي القدمين، وهناك يبدأ حياة جديدة كل الجدة، ينتزعها من براثن الحاجة والجوع والمرض.

وأما كلارا، فقد كانت راهبة مسيحية متدينة، ممتلئة بتعاليم “المسيح”، فقدت بدورها جميع أفراد أسرتها بحرب لبنان، حتى إذا دخلت عالم المال والأعمال ضاعت وفسدت أخلاقها، إذ أغراها رجاله بالمناصب الرفيعة، واشتروا جمالها لإتمام صفقاتهم، فظل يراودها قلق الانتحار معاقبة لنفسها على الانحطاط، فأقامت قداسا.

وهي على عتبة الانتحار، تلتقي مع بطل الرواية فيجري بينهما حوار عن الأديان عن مراتب الأنفس السبع في الإسلام وصفات الفضيلة في المسيحية، بنقاش فكري معتدل، خال من التشدد الديني، وبعيد عن الفكر السياسي، فيغير حياتها رأسا على عقب، إذ تكتشف أنهما يتوافقان في 50 صفة من صفات الأنفس السبع ومكنونها، فيتزوجان ويعيشان في تسامح الأديان. تقول:

– كلانا نصلي لإله واحد أليس كذلك؟ ألا فليعبد كل منا ربه بطريقته الخاصة، وليتفاخر كل منا بفضائل دينه لصاحبه.

دارفور

ويقرر بطل الرواية فجأة أن يترك حياة الدعة ورغد العيش، ويعود إلى دارفور مقاتلا، فيخوض حربه ضد مليشيا الجنجويد برمزيتها الواسعة في تلك الأودية المطمئنة، حتى يتلقى الموت في بطولة هادئة.

لكن كلارا تميل إلى الاعتقاد أن “الشرتاي” كالقطة بسبع أرواح، لن يسمح للموت أن يداهمه بسهولة دون أن يحقق أهدافه، ويحرر أرضه، ويثأر لعشيرته، وهكذا تقرر السفر إلى معسكرات الثوار متنكرة بصورة امرأة دارفورية عجوز، مخترقة تحصينات مليشيا الجنجويد للبحث عنه.

فيا ترى هل تخترق رصاصة في الظلام رأسها الصغير أم أن ثمة أملا بأن تنجو، فتلتقي مع الشرتاي في منطقة ترفرف حولها أجنحة الموت؟

رواية “أرواح الشرتاي الـ7” تضع القارئ أمام تفاصيل لا تكتفي بالحدث فحسب، بل تذهب معه لسبر أغوار الأنفس البشرية السبعة وتطرح الأسئلة عن مدى تأثير هذه الأنفس في حياة الإنسان من المهد إلى اللحد.

شاركها.
Exit mobile version